منظومة لا تنام: كيف تُراقب السعودية سلامة المنتجات قبل أن نسمع بالشائعة؟
مقال تحليلي يعرض جهود الجهات الرقابية في السعودية لحماية المستهلك من المنتجات الضارة، ويفنّد أبرز الشائعات حول الصبغة الحمراء وأواني الجرانيت، مع توعية استراتيجية بدور المستهلك في مقاومة الأخبار المضللة.

بين الحقيقة والشائعة: حين تُهاجم المعلومة بغير سلاح العلم
في زحام الأصوات، وكثافة القناعات الجاهزة، يصعب على الحقيقة أن تُقنع جمهورًا لا يبحث عنها بقدر ما يبحث عن شعور مؤقت باليقين. ولهذا، لم يكن مستغربًا أن تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي شائعتين خطيرتين في أثرهما، ساذجتين في بنيتهما المعرفية: الأولى تزعم أن المملكة تخلّفت عن الولايات المتحدة في حظر استخدام الصبغة الحمراء الصناعية (E127)، والثانية تحذر من استخدام أواني الجرانيت باعتبارها "مسرطنة".
إن مسؤوليتنا لا تكمن فقط في تفنيد هذه المزاعم، بل في كشف الأسس المعرفية المتصدعة التي تُبنى عليها، ثم إظهار البناء التنظيمي والرقابي الذي تنتهجه المملكة لحماية المستهلك، ذلك البناء الذي لا ينتظر تعليمات الخارج بقدر ما يستند إلى منظومة سيادية من التقييم العلمي، والتحليل المخبري، والمراجعة المستمرة.
الأسطورة الأولى: الحظر الأمريكي وصبغة E127
أن تُقارن قرارات الجهات الرقابية السعودية بتوقيتات نظيراتها الغربية، دون النظر إلى السياق التنظيمي والعلمي لكل حالة، أشبه بمن يقارن سرعة استجابة الطبيب لتشخيصين مختلفين دون أن يُدرك أن أحد المرضين كان طارئًا والآخر خاضعًا لمراقبة مزمنة.
الصبغة الحمراء E127، المعروفة باسم "إريثروزين"، لم تُحظر حديثًا فحسب في بعض المنتجات بأمريكا، بل كانت خاضعة لتقييم دوري منذ سنوات. وفي المملكة، فإن وجود هذه المادة تحت الرقابة لم يكن غائبًا عن الهيئة العامة للغذاء والدواء، بل خضعت للتقييم العلمي وفق المعايير الدولية، واستُبعدت أو قُنّنت بحسب المخاطر المحددة. واللافت أن قرار الحظر في السعودية لبعض المنتجات التي تحتويها صدر قبل القرار الأمريكي في صورته الأخيرة، وهو ما يدل على مبادرة مستقلة لا تتبع الإملاءات الخارجية، بل تسبقها أحيانًا.
الأسطورة الثانية: خطر أواني الجرانيت
أما الزعم بأن أواني الطهي المصنوعة من الجرانيت خطيرة أو مسرطنة، فهو استنساخ ضعيف لتخوفات قديمة لم تُثبتها أي جهة علمية موثوقة. إن ما يُسمى بأواني "الجرانيت" في السوق ليست صخورًا طبيعية، بل أدوات مصنعة بطبقات متعددة، تخضع لاختبارات صارمة من حيث التفاعلية الكيميائية، وثبات الطلاء، وعدم تسرب المعادن الثقيلة. وقد بيّنت الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس أن هذه الأواني، حال حصولها على شهادة مطابقة للمواصفات السعودية، فهي آمنة ضمن شروط الاستخدام المعتمد.
تلك الشهادة ليست حبرًا على ورق، بل تتطلب سلسلة من الفحوصات المعملية، والاستيفاء الكامل لمواصفات السلامة الكيميائية والفيزيائية، قبل دخول المنتج إلى السوق المحلي. ولهذا فإن الحديث عن ضرر أواني الجرانيت، دون إثبات علمي، لا يعبّر إلا عن قلق غير مبرر يُغذيه ضعف الثقة في المؤسسات أكثر من قوته كدليل علمي.
منظومة الحماية: حين تتكامل الرؤية التنظيمية مع سلامة المجتمع
إن الحديث عن سلامة المنتجات في السوق السعودي لا يجوز أن يُختزل في ردود فعل على الشائعات، أو بيانات نفي مؤقتة، بل يجب أن يُقرأ ضمن مشهد استراتيجي أوسع تتقاطع فيه ثلاثية المعرفة والرقابة والمسؤولية. ولهذا فإن ما تقوم به الهيئة العامة للغذاء والدواء والهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة ليس مجرد أدوار رقابية، بل هو انعكاس لمشروع وطني قائم على حماية الإنسان قبل المستهلك، وعلى الاستباق لا الاستجابة فقط.
شهادات المطابقة: حماية ما قبل الدخول
في زمن العولمة، حيث تتسابق الدول لتسويق منتجاتها وفرض سلعها على الأسواق، يصبح سؤال الجودة سابقًا على سؤال الكمية. وهنا تأتي شهادة المطابقة كأحد أعمدة الحماية الاستباقية، التي تشترط على كل منتج مستورد أن يثبت التزامه بالمواصفات الفنية السعودية قبل أن يُمنح إذن الدخول.
هذه الشهادة لا تمنحها الموانئ ولا الشركات، بل تُصدر بناء على تقارير من جهات معتمدة دوليًا، وتُراجع عبر نظام إلكتروني مركزي يسمح بتتبع مصدر السلعة، ومكونات تركيبها، وآلية اختبارها. إنها ليست مجرد إجراء روتيني، بل مصفاة معرفية تفصل بين ما يصلح للاستهلاك وما يُهدد السلامة العامة.
الرصد الميداني والتحليل المعملي: ما بعد الدخول لا يقل أهمية
لكن الحماية لا تتوقف على شهادات ما قبل الدخول، فهناك عين أخرى لا تنام: برامج الرصد الميداني التي تقوم بها الجهات الرقابية بشكل دوري، وتشمل سحب عينات من الأسواق، ومطابقة المكونات الفعلية للمنتجات مع ما هو مدوّن على البطاقة الغذائية أو البيانات الكيميائية والفيزيائية.
إن هذا النوع من الرصد لا يرصد المخالفات فحسب، بل يُعد قاعدة بيانات حيّة لتقييم المخاطر، وتوجيه السياسات الرقابية المستقبلية. ومع تطور تقنيات التحليل المعملي، أصبحت الجهات قادرة على اكتشاف آثار مواد ضارة حتى في الحدود الدقيقة جدًا، مما يجعل من دورها صمام أمان حقيقي يتعامل مع المستقبل قبل أن يتحوّل إلى أزمة.
ما لا يراه المستهلك
في الظاهر، قد يبدو للمتابع أن السوق يضج بعشرات الآلاف من المنتجات دون سيطرة، ولكن خلف هذا المشهد الظاهري، هناك نظام رقابي ذكي، تراكمي، يعتمد على منهجيات تتبع المخاطر، وعلى الربط الإلكتروني مع المنافذ الجمركية، وعلى قواعد بيانات عالمية تحذّر من المنتجات المحظورة في بلدان المنشأ.
إنها منظومة لا تعتمد على الصدفة ولا على الإعلام الطارئ، بل على وعي مؤسساتي متجذر، يشبه جهاز المناعة في جسد الدولة، يعمل في صمت، ولا يصرخ إلا حين تتطلب المصلحة العامة الإفصاح.
المستهلك بين الطمأنينة والوعي: لا تكن أداة في يد المجهول
في خضم تدفق الأخبار ومقاطع الفيديو والتحذيرات التي تنتشر كل يوم عن منتج هنا أو مادة هناك، لا بد أن نتذكر قاعدة مركزية في فهم العالم الرقمي: أن الخبر الذي يصلنا متأخرًا، غالبًا ما يكون قد تم التعامل معه مبكرًا من قبل الجهات الرقابية المختصة.
وحينما يظن البعض أن انتشار معلومة تحذيرية مفاجئة هو كشف أو سبق، فإن الحقيقة أن الكثير مما يُنشر قد سبقته مراجعات مخبرية، وتحقيقات تنظيمية، وإجراءات وقائية بدأت وانتهت قبل أن يلتفت إليها الإعلام العابر أو الحسابات الباحثة عن التفاعل اللحظي.
المستهلك الواعي لا يُقاس بمدى سرعة مشاركته للشائعات، بل بقدرته على التحقق، وتأجيل الحكم، والثقة بأن بلاده تبني منظومة حماية غذائية وكيميائية متقدمة لا تعتمد على ردود الأفعال، بل على أنظمة رقابية مستمرة. هذا الوعي لا يعني السكون، بل يعني أن يكون كل فرد فينا شريكًا في المسؤولية، لا مروجًا غير واعٍ لما يُروَّج له عمدًا أو غفلةً.
من ينشر التحذير اليوم دون علم، غالبًا لا يسعى لحماية المستهلك، بل يسعى لمكافأة رقمية على شكل إعادة تغريد أو إعجاب زائف، وهو ما يُضعف ثقة المجتمع بمؤسساته، ويشوش على الرسائل الحقيقية التي تستحق التفاعل.
دعونا نعيد ترتيب الأولويات: المصداقية فوق الانتشار، والعلم فوق الانفعال، والثقة المؤسسية فوق الفزع اللحظي. فحماية المستهلك ليست حربًا موسمية ضد منتج ما، بل هي مشروع وطني لا يُدار من خلال هاشتاق، بل عبر مؤسسات تعرف ما تفعل، وتصمت حين يجب أن تصمت، وتتحدث حين يجب أن يُسمع صوتها.